التوقيع في اللغة
يطلق التوقيع في اللغة على عدة معان، حقيقية وأخرى مجازية، حسية ومعنوية، ذكرتها معجمات اللغة، كالصحاح، والأساس، واللسان، والقاموس، والتاج.
فالواو والقاف والعين أصل واحد يرجع إليه فروعه وما يشتق منه، ويدل في عمومه على سقوط شيء على التحقيق أو التقريب.
ولكنّ المعاني التي ذكرتها كتب اللغة للفظة التوقيع لا تهمنا في هذا المجال، وإنما يهمنا المعنى اللغوي الذي نـجد له ارتباطًا بالتعريـف الاصطلاحي للتوقيعات، وبعبارة أخرى المعنى اللغوي الذي اشتقت منه التوقيعات بعدها فنًا أدبيًا.
التوقيعات مشتقة في اللغة من التوقيع الذي هو بمعنى التأثير، يقال: وقَّعَ الدَّبرُ ظهرَ البعير إذا أثر فيه، وكذلك الموقِّع (كاتب التوقيع) يؤثر في الخطاب، أو الكتاب الذي كتب فيه حسّا أو معنى.
وقيل: إن التوقيع مشتقٌ من الوقوع؛ لأنه سبب في وقوع الأمر الذي تضمنه، أو لأنه إيقاع الشيء المكتوب في الخطاب أو الطلب، فتوقيع كذا بمعنى إيقاعه.
قال الخليل: التوقيع في الكتاب إلحاقٌ فيه بعد الفراغ منه، واشتقاقه من قولهم: وقّعْتُ الحديدة بالميقعة، وهي المطرقة: إذا ضربتها، وحمار موقَّع الظهر: إذا أصابته في ظهره دَبَرَةٌ. والوقيعة: نُقْرَةٌ في صخرة يجتمع فيها الماء، وجمعها: وقائع. قال ذو الرمة:
ونلْنَا سِقَاطًا من حديثٍ كأنـَّـهُ*جَنىَ النحلِ ممزوجًا بماءِ الوقائعِ
فكأنه سُمِّى توقيعًا؛ لأنه تأثير في الكتاب، أو لأنه سببُ وقوع الأمر وإنفاذه، من قولهم: أوقعت الأمر فوقع.
وأميل إلى ترجيحِ السبـب الأخير؛ لأن التوقيـع يتضمن إجراءًا يلزم تنفيذه.
وقال ابن الأنباري: توقيـع الكاتب في الكتاب المكتوب أن يجمل بين تضاعيف سطوره مقاصد الحاجة، ويحذف الفضول.وهو مأخوذ من توقيع الدَّبَرِ ظهر البعير؛ فكأن الموقِّع في الكتاب يؤثر في الأمر الذي كتب الكتاب فيه ما يؤكده ويوجبه.
التوقيع في الاصطلاح
وقد اكتسبت التوقيعات في الإسلام معنىً اصطلاحيًا يرتبط بالمعنى اللغوي الذي ذكرناه، فأصبحت تستعمل لما يوقعه الكاتب على القضايا أو الطلبات المرفوعة إلى الخليفة أو السلطان أو الأمير، فكان الكاتب يجلس بين يدي الخليفة في مجالس حكمه، فإذا عرضت قضية على السلطان أمر الكاتب أن يوقع بما يجب إجراؤه، وقد يكون الكاتب أحيانًا السلطان نفسه.
يقول البطليوسي (44- 521هـ) في تعريف التوقيع: (وأما التوقيع فإن العادة جرت أن يستعمل في كل كتاب يكتبه الملك، أو مَنْ له أمر ونهي في أسفل الكتاب المرفوع إليه، أو على ظهره، أو في عَرْضه، بإيجاب ما يُسْأل أو منعه، كقول الملك: ينفذ هذا إن شاء الله، أو هذا صحيح. وكما يكتب الملك على ظهر الكتاب: لِتُرَدَّ على هذا ظُلاَمته، أو لينظـر في خبر هذا، أو نحو ذلك).
ويقول ابن خلدون (732 – 808هـ): ومن خُطط الكتابة التوقيع، وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله، ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها، متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه، فإما أن تصدر كذلك، وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة، ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه.
تطور دلالتها
تطوَّر مفهوم التوقيعات في العصر العباسي، واكتسب معنى أدبيًا، فأصبحت تطلقُ على تلك الأقوال البليغة الموجزة المعبرة التي يكتبها المسؤول في الدولة، أو يأمر بكتابتها على ما يرفع إليه من قضايا أو شكايات، متضمنة ما ينبغي اتخاذه من إجراء نحو كل قضية أو مشكلة، وهي بهذا المفهوم أشبه ما تكون بتوجيه المعاملات الرسمية في الوقت الحاضر.
وفي العصور الوسطى أضيف إلى التوقيعات دلالة جديدة مع بقاء دلالتها الأدبية السائدة في العصر العباسيّ، حيث أصبحت تطلق على الأوامر والمراسيم التي يصدرها السلطان أو الملك؛ لتعيين والٍ، أو أمير، أو وزير، أو قاضٍ، أو حتى مدرس، وامتازت بطولها، والإسهاب في ذكر الحيثيات والأسباب المسوغة للتعيين؛ حتى تجاوز بعضها أربع صفحات، وقد أورد القلقشندي في صبح الأعشى نماذج كثيرة منها، ولا يتسع المجال لذكر شيء منها.
والتوقيعات بهذا المفهوم لا تُعَدُّ توقيعات أدبية لافتقادها عنصري البلاغة والإيجاز، ولا تدخل ضمن هذا البحث، وعَدُّها من باب الكتابة الديوانية والنثر التاريخي أولى وأصح.
ثم تــحول معناها بعد ذلك إلى عــلامة اسم السلطان خاصـة التي تذيل بها الأوامر والمراسيم والصكوك كالإمضاء عندنا، ثم توسع في معناها فأصبحت تدل على تأشيرة الاسم، وهــي كتابته بتلك الهيئة الخاصة التي تقابل في الإنجليزية لفظة (Signature).
أنواع التوقيعات الأدبية
بعد أن تحدثنا عن التطور الدلالي للفظة (التوقيع)، يحسن أن نتحدث بإيجاز عن أنواع التوقيعات الأدبية، التي نلاحظ – من خلال استقرائها وتتبعها في كتب الأدب والتراث - أنها لا تخرج عن الأنواع التالية:
1 - قد يكون التوقيع آيةً قرآنيةً تناسب الموضوع الذي تضمنه الطلب، أو اشتملت عليه القضية.
من ذلك ما ذكر أن أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي وزير معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه الديلمي كان قبل اتصاله بمعز الدولة وتقلده منصب الوزارة يعاني من قلة ذات اليد وشدة الفقر وضيق الحال، وكان يشكو رمدًا في عينيه لا يفارقه، وسافر في بعض الأيام مع رفيق له أديب من أهل الأسفار والتجوال، ولكنه لقي في سفره هذا مشقة ونصبا، فلا زاد معه ولا مال، ونزل مع رفيقه في بعض الأماكن واشتهى اللحم، فلم يجد ثمنه، فأنشد ارتجالاً ورفيقه يسمع:
ألا مَوْتٌ يُباَعُ فأشْتَريهِ*
فهذا العيشُ مالا خيرَ فيهِ
ألا مَوْتٌ لذيذُ الطعمِ يأتِي*
يُخلِّصُني من العيشِ الكريهِ
إذا أبصَرْتُ قبرًا من بعيدٍ*
ودِدْتُ لو أنَّني مما يليهِ
ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍّ*
تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ
فتأثر رفيقه بالأبيات ورثى لحاله، ورق له، فاشترى له بدرهم لحمًا، وأعده وقدمه إليه، وتفرقا.
ثم تتابعت الأيام، وتغيرت الأحوال، وحسنت حال المهلبي وتولى الوزارة ببغداد لمعز الدولة البويهي، وضاقت الحال برفيقه في السفر الذي اشترى له اللحم، وحقق له رغبته، وآل به الأمر إلى أن جلس على بساط الفقر والفاقة، وبلغه تولي المهلبي الوزارة، فشد الرحال وقصده في بغداد، فلما بلغه كتب إليه رُقْعَة تتضمن أبياتًا، منها:
ألا قُلْ للوزير فَدتْه نَفْسِـي*
مَقَالَ مُذَكِّرٍ ما قــد نسيهِ
أتذكرُ إذ تقول لضنْكِ عَيْشٍ*
(ألا مَوْتٌ يباعُ فأشتريــهِ)
فلما قرأ المهلبي الأبيات تذكر صحبة رفيقه، وفضله عليه، وهزته أريحية الكرم ورعاية حق الصحبة، وردّ الفضل لأهله والمعروف لمستحقيه.
إنّ الكرامَ إذا ما أَسهَلُوا ذَكَروا*
مَنْ كان يألفُهمْ في المنزلِ الخَشِنِ
فأمر له بسبع مئة درهم، ووقَّع في رقعته قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء }.
ثم دعاه وأكرمه، وقَلده عملاً مناسبًا يرتزق به.
والتوقيع الذي وقعه المهلبي على رقعة صاحبه (الآية القرآنية الكريمة) يبدو مطابقًا تمامًا لفحوى القصة ومضمونها، أعطاه رفيقه درهما في وقت الضيق والشدة، فأعطاه هو سبع مئة درهم في وقت السعة والرخاء تحقيقًا لما في الآية الكريمة.
ومن ذلك ما كتب به عامل إرمينية إلى المهدي الخليفة العباسي يشكو إليه سوء طاعة الرعية، فوقع المهدي في خطابه قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، والتوقيع بألفاظ القرآن حسن في الجدّ من الأمور، محظور في المُزْح والمطايبة.
2- وقد يكون التوقيع بيت شعر، من ذلك ما كتب به قتيبة بن مسلم الباهلي إلى سليمان بن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي يتهدده بالخلع، فوقع سليمان في كتابه:
زعمَ الفرزدقُ أن سَيَقْتُلُ مِرْبَعًا*
أبشرْ بطولِ سلامةٍ يا مِرْبَعُ
وكتب ألفونس السادس ملك قَشْتالةَ إلى يوسُف بن تاشِفين أمير المرابطين في الأندلس يتوعده ويتهدده، فوقع يوسف في كتابه بيت أبي الطيب المتنبي:
ولا كُتْبَ إلا اَلمْشَرفِيَّةُ والَقنَا*
ولا رُسُلٌ إلا الخميسُ الَعْرمْرَمُ
3- وقد يكون مثلاً سائرًا، من ذلك ما وقع به علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: في بيته يؤتى الحكم).
ومن ذلك أيضًا ما وقَّع به يزيد بن الوليد بن عبدالملك بن مروان إلى مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وقد أُخبر يزيد أنه يتلكأ في مبايعته بالخلافة: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاك كتابي فاعتمد على أيهما شئت.
4- وقد يكون التوقيع حكمة، من ذلك ما وقع به السفاح الخليفة العباسي الأول في رقعة قوم شكوا احتباس أرزاقهم: من صبر في الشدة شارك في النعمة.
وكتب إبراهيم بن المهدي إلى الخليفة المأمون يعتذر إليه مما بدر منه من خروجه عليه، ومطالبته بالخلافة، فوقع المأمون في كتابه: القدرةُ تُذْهِبُ الحفيظة، والندم جزء من التوبة، وبينهما عفو الله.
5- وقد يكون التوقيع غير ذلك، رفعت إلى يحيى بن خالد البرمكي رسالة ركيــكة العبارة، كتبت بخط جمـيل فوقع: الخط جسمٌ روحه البلاغة، ولا خير في جسمٍ لا روحَ فيه.
ووقع ابنه جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي لبعض عماله: قد كَثُرَ شاكوكَ، وقل شاكروك، فإما عَدَلْت، وإما اعتــزلت.
متى وجدت التوقيعات في الأدب العربي؟
التوقيعات فن أدبي نشأ في حضن الكتابة، وارتبط بها، ولذلك لم يعرف عربُ الجاهلية التوقيعات الأدبية ولم تكن من فنون أدبهم؛ لسبب يسير وهو أن الكتابة لم تكن شائعة بينهم، بل كان الذين يعرفون الكتابة في هذا العصر قلة نادرة، لذلك فإن الأدب الجاهلي يتضمن الفنون الأدبية القائمة على المشافهة والارتجال، كالشعر، والخطابة، والوصية، والمنافرة، وغيرها من الفنون القولية القائمة على ذلاقة اللسان، والبراعة في الإبانة والإفصاح، وإصابة وجه الحق ومفصل الصواب كالحكم والأمثال.
كذلك لم تُعْرَف التوقيعات في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكتابة أيضًا لم تكن شائعـة، وقد جاء الإسلام وليس يكتــب بالعربية غير سبعة عشر شخصًا.
ولعل أقدم ما أثر من توقيع في تاريخ الأدب العربي ما كتب به أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – إلى خالد بن الوليد – رضي الله عنه – حينما بعث للصديق خطابًا من دومة الجندل يطلب أمره في أمر العدو، فوقع إليه أبو بكر: أدن من الموت توهبْ لك الحياة.
ثم شاعت التوقيعات في عهد عمر وعثمان وعلي – رضي الله عنهم -، لشيوع الكتابة، وامتد هذا الشيوع بصورة أوسع في عصر بني أمية.
ولذلك نلحظ أن التوقيعات فن أدبي نشأ في عصر صدر الإسلام، وليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض مؤرخي الأدب العربي من أن التوقيعات فن أدبي عباسي، أخذه العباسيون من الفرس.
يتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــع