بسم الله الرحمن الرحيم
الحق لا يشتبه بباطل ، إنما يموه الباطل عند من لا فهم له .
هذا في حق من يدعي النبوات ، و في حق من يدعي الكرامات .
أما النبوات فإنه إدعاها خلق كثير ظهرت قبائحهم ، و بانت فضائحم و منها ما أوجبته خسة الهمة و التهتك في الشهوات ، و التهافت في الأقوال و الأفعال
، حتى افتضحوا .
فمنهم الأسود العنسي
، إدعى النبوة و لقب نفسه ذا الحمارة ، لأنه كان يقول : يأتيني ذو الحمار . و كان أول أمره كاهناً يشعوذ فيظهر الأعاجيب . فخرج في أواخر حياة النبي صلى الله عليه و سلم فكاتبه مذحج و نجران و أخرجوا عمرو بن حزم و خالد بن سعيد صاحبي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و صفا له اليمن ، و قاتل شهر بن باذان فقتله و تزوج إبنته فأعانت على قتله فهلك في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و بان للعقلاء أنه كان يشعبذ .
و منهم مسيلمة
، إدعى النبوة و تسمى رحمن اليمامة ، لأنه كان يقول : الذي يأتيني رحمان .
فآمن برسول الله صلى الله عليه و سلم و ادعى أنه قد أشرك معه ، فالعجب أنه يؤمن برسول و يقول إنه كذاب . ثم جاء بقرآن يضحك الناس ، مثل قوله : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء و أسفلك في الطين ، و من العجائب شاة سوداء تحلب لبنا أبيض . فانهتك ستره في الفصاحة .
ثم مسح بيده على رأس صبي فذهب شعره . و بصق في بئر فيبست .
و تزوج سجاح التي إدعت النبوة فقالوا : لا بد لها من مهر ، فقال : مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاة الفجر و العتمة .
و كانت سجاح هذه قد إدعت النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإستجاب لها جماعة فقالت : أعدوا الركاب ، و إستعدوا للنهاب ، ثم أعبروا على الرباب ، فليس دونهم حجاب ، فقاتلوهم .
ثم قصدت اليمامة فهابها مسيلمة فراسلها و أهدى لها فحضرت عنده فقالت : إقرأ علي ما يأتيك به جبريل .
فقال : إنكن معشر النساء خلقتن أفواجاً ، و جعلتن لنا أزواجأً ،. فقالت : صدقت أنت نبي .
فقال لها : قومي إلى المخدع ، فقد هيىء لك المضجع ، ,.وزنى بها فافتضحت عند العقلاء من أصحابها ، فقال منهم عطارد بن حاجب :
أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها و أصبحت أنبياء الناس ذكراناً
فلعنة الله رب الناس كلهم على سجاح و من بالإفك أغواناً
أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت أصداؤه من رعيت حيثما كانا
ثم أنها رجعت عن غيها و أسلمت ، و ما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل .
و منهم طليحة بن خويلد
، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة و تبعه عوام و نزل سميراً ، فتسمى بذي النون ، يقول : إن الذي تأتيه يقال له ذو النون .
و كان من كلامه : إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم و لا قبح أدباركم شيئاً فأذكروا الله أعفة قياماً .
و من قرآنه : و الحمام و اليمام ، و الصراد الصوام ، ليبلغن ملكنا العراق و الشام
.
تبعه عيينة بن حصين
، فقاتله خالد بن الوليد .
فجاء عيينة إلى طليحة فقال : و يحك أجاءك الملك ؟ قال : لا ، فارجع فقاتل ، فقاتل .
ثم عاد ، فقال : أجاءك ؟ فقال : فقال : لا ، فعاد فقاتل .
ثم عاد ، فقال : أجاءك ؟ قال : نعم .
قال : ما قال لك ؟ قال : قال إن لك جيشاً لا تنساه .
فصاح عيينة : الرجل ـ و الله ـ كذاب .
فانصرف الناس منهزمين ، و هرب طليحة إلى الشام ، ثم أسلم وصح إسلامه و قتل بنهاوند
.
و ذكر الواقدي : أن رجلاً من بني يربوع يقال له جندب بن كلثوم
، كان يلقب كرداناً ، إدعى النبوة على رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و كان يزعم أن دليله على نبوته أنه يسرج مسامير الحديد و الطين . و هذا لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان فتعمل فيه النار .
و قد تنبأ رجل يقال له كهمش الكلابي ، كان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه : [ يا أيها الجائع ، إشرب لبناً تشبع ، و لا تضرب الذي لا ينفع ، فإنه ليس بمقنع ] . و زعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله ، وحيلته في ذلك أنه يأخذ دهن الغار و حجر البرسان و قنفدا محرقاً و زيد البحر و صدفاً محرقاً مسحوقاً و شيئاً من الصبر الحبط فيطلي به جسمه ، فإذا قربت منه السباع فشمت تلك الأرياح و زفورتها نفرت .
و تنبأ بالطائف رجل يقال له أبو جعوانة العامري
، و زعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق . و هذا لأنه يدهنه بدهن معروف .
و منهم هذيل بن يعفور من بني سعد بن زهير ، حكى عنه الأصمعي أنمه عارض سورة الإخلاص فقال : قل هو الله أحد إله كالأسد ، جالس على الرصد ، لا يفوته أحد .
و منهم هذيل بن واسع
كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني ، عارض سورة الكوثر ، فقال له رجل ما قلت ؟ فقال : إنا أعطيناك الجوهر ، فصل لربك و جاهر ، فما يردنك إلا كل فاجر .
فظهر عليه السنوري فقتله و صلبه على العمود ، فعبر عليه الرجل فقال : إنا أعطيناك العمود ، فصل لربك من قعود ، بلا ركوع و لا سجود فما أراك تعود . و ممن ظهر فإدعى أنه يوحى إليه ، المختار بن أبي عبيد ، و كان متخبطاً في دعواه ، و قتل خلقاً كثيراً ، و كان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه ، ثم قتل .
و منهم حنظلة بن يزيد الكوفي
، كان يزعم أن دليل أنه يدخل البيضة في القنينة و يخرجها منها صحيحة ، ذلك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض فيلين قشرها ثم يصب ماء في قنينة ، ثم يدس البيضة فيها ، فإذا لقيت الماء صلبت .
.
و ما من المدعين إلا من خذل .
و قد جاءت القرامطة بحيل عجيبة ، و قد ذكرت جمهور هؤلاء و حيلهم في كتابي التاريخ المسمى بالمنتظم ، و ما فيهم من يتم له أمر إلا و يفتضح .
و دليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه و سلم أجلى من الشمس .
فإنه ظهر فقيراً و الخلق أعداؤه فوعد بالملك فملك . و أخبر بما سيكون فكان ، و صين من زمن النبوة عن الشره و خساسة الهمة و الكذب و الكبر .
و أيد بالثقة و الأمانة و النزاهة و العفة ، و ظهرت معجزاته للبعيد و القريب .
و أنزل عليه الكتاب العزيز الذي حارت فيه عقول الفصحاء ، و لم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه فضلاً عن سورة .
و قد قال قائلهم و افتضح ، ثم أخبر أنه لا يعارض فيه كما قال . و ذلك قوله تعالى : فاتوا بسورة ثم قال : فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا و كذلك قوله : فتمنوا الموت و لن يتمنوه فما تمناه أحد .
إذا لو قال قائل : قد تمنيته لبطلت دعواه .
و كان يقول ليلة غزاة بدر : [ غداً مصرح فلان ههنا فلا يتعداه ] .
و قال : [ إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، و إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، فما ملك بعدهما من كان له كبير قدر . و لا من إستتب له حال ] .
و من أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا ، فكان يبيت جائعاً ، و يؤثر إذا وجد ، و يلبس الصوف ، و يقوم الليل .
و إنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات ، فلما لم يردها دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق .
ثم لم يزل دينه حتى عم الدنيا ، و إن كان الكفر في زوايا الأرض ، إلا أنه مخذول .
و صار في تابعيه من أمته الفقهاء الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء تحيروا في حسن إستخراجهم ، و الزهاد الذين لو رآهم الرهبان تحيروا في صدق زهدهم ، و الفطناء الذين لا نظير لم في القدماء .
أو ليس قوم موسى يعبدون بقرة ، و يتوقفون في ذبح بقرة ، و يعبرون البحر ، ثم يقولون : إجعل لنا إلها ؟
و قوم عيسى يدخرون من المائدة و قد نهوا .
و المعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان .
و أمتنا بحمد الله تعالى سليمة من هذه الأشياء ، و إنما في بعضا ميل إلى الشهوات المنهي عنها ، و ذلك من الفروع لا من الأصول .
فإذا ذكروا بكوا و ندموا على تفريطهم .
فنحمد الله على هذا الدين ، و على أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه و سلم .
و قد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا و الرياسة ، فإستغواهم الهوى فخرقوا بإظهار ما يشبه الكرامات ، كالحلاج ، و ابن الشاش ، و غيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب تلبيس إبليس .
و إنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم ، و لم يزل الله ينشىء في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون .
كما ينشىء من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون ، حفظاً لهذا الدين و دفعاً للشبهات عنه .
فلا يزال الفقيه و المحدث يظهران عوار كل ملبس بوضع حديث أو بإظهار دعوى تزهد و تنميس فلا يؤثر ما إدعياه إلا عند جاهل بعيد من العلم و العمل .
ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون .
من كتاب صيد الخاطر
م/ن
Posted via Mobile Device